قال الله عز وجل: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63] أي: من الذي يحبب بعض القلوب لبعض إلا الله لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
قبائل العرب أكثر من ثلاثين قبيلة, لما آخى صلى الله عليه وسلم بينهم أصبحوا أمة واحدة, يقاتلون في صف واحد, ويصلون في صف واحد.
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
نموذج للعفو والتسامح
عند البخاري في الصحيح: أن الصحابة اجتمعوا في مجلس يتشاورون في أمر الحرب, وكان معهم خالد بن الوليد سيف الله الذي خاض مائة معركة ما هزمت له راية أبداً, ومعهم بلال بن رباح , المولى العبد الذي رفعه الإسلام حتى أصبح سيداً من السادات, مؤذن الأرض لنداء السماء, ومعهم أبو ذر ؛ فتكلم بلال فرد عليه أبو ذر قائلاً: حتى أنت يابن السوداء, وهذه الكلمة سيئة, ولا تغتفر في الإسلام إلا بالتوبة والاستغفار, لماذا أديننا دين الألوان؟ أديننا دين التحزبات والعصبيات الجاهلية؟ أديننا دين الأسر التي تبني مجدها على جماجم الناس؟ لا والله, ديننا دين إخاء وحب.فذهب بلال وقال: والله لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام, وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره, وقال: يا رسول الله! تكلمت فقال لي كذا..
وكذا.., فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام, فاستدعى أبا ذر , قال أبو ذر : {والله ما علمت هل رد عليّ السلام أو لا من الغضب, ثم قال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية قال: يا رسول الله! أعلى كبر سني وشيبتي؟ قال: نعم إنك امرؤ فيك جاهلية } فخرج أبو ذر وقال: لا جرم والله لأنصفن بلالاً من نفسي, وأقبل بلال يمشي في الطريق فوضع أبو ذر رأسه على التراب, وقال: طأ يا بلال رأسي برجلك, لا أرفع رأسي حتى تطأه برجلك, فرجلك أكرم من رأسي -فماذا فعل بلال ؟- فبكى بلال ! وقال: والله لا أطأ رأسك أنت أخي وحبيبي, فتعانقا والتزما وبكيا.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
يقول سبحانه عن المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] أذلة جمع ذليل, أي: أنه ذليل مع إخوانه, وأما مع الكفار فعزيز قوي, لكن الجاهلية عكس هذه الصورة؛ فإنها جعلت من الإنسان أسداً هصوراً على جيرانه وأرحامه وقبيلته, وذليلاً مخادعاً جباناً أمام الكفار والأعداء, فنسأل الله أن يصلح الحال.ويقول سحبانه في أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
المثل الأعلى في الذلة للمؤمنين والصفح عمن أساء
يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله أمرني أن أصل من قطعني, وأن أعطي من حرمني, وأن أعفو عن من ظلمني } أو كما قال عليه الصلاة والسلام.وفي البخاري : {جاء رجل من الأعراب للرسول عليه الصلاة والسلام, وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم بردة نجرانية غليظة الحاشية, فجره الأعرابي من البردة حتى أثر في عنق المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فلما التفت إليه عليه الصلاة والسلام قال الأعرابي البدوي: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك, لا مال أبيك ولا من مال أمك؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام! وأمر له بعطاء فأنزل الله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] } يقول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا؛ أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم } معنى ذلك: أن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين.معنى ذلك: أن تتبسم في وجوه الناس, فإن تبسمك في وجه أخيك صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وسوف أذكر إن شاء الله أسباب الحب والألفة في آخر المحاضرة.يقول سبحانه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] يقول ابن أبي حاتم : "كان الصحابة إذا اجتمعوا لا يتفرقون حتى يقرءوا هذه السورة".
رجل من أهل الجنة
واسمعوا إلى قصة طريفة مكررة, لكن كلما كررت كانت أحلى وأحلى, كان عليه الصلاة والسلام جالساً مع أصحابه في المسجد, يذكرهم بالله, وكما يقول ابن القيم : "كانت مجالسه ذكراً لله" أنفاسه ذكر, وكلامه ذكر, ونومه ذكر, وأكله ذكر, وشربه ذكر, وممشاه ذكر لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ولما جلس الصحابة, وإذا برجل كبير في سنه, دخل وماء الوضوء يتقاطر من لحيته, وحذاؤه تحت إبطه, وهذه علامة التوحيد والإيمان, والله عز وجل يضحك إلى ثلاثة كما في الحديث عند الطبراني -ولله ضحك يليق بجلاله- لما قال عليه الصلاة والسلام: {يضحك ربنا تبسم أعرابي بدوي, فقال له عليه الصلاة والسلام: ما لك تتبسم؟ قال: لا نعدم من رب يضحك خيراً -يقول: ما دام ربنا يضحك فهذا علامة على أنه سوف يرحمنا ويعطف علينا ويلطف بنا, وسوف يغفر لنا, وأملنا في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كبير- يضحك الله إلى ثلاثة: أولهم: رجل خرج في الصحراء مع قافلة مسافرين معهم مطاياهم, سافروا من أول الليل إلى آخر الليل, فلما قرب الصبح نزلوا في مكان, وكانوا متعبين مجهدين من مشقة السفر فناموا جميعاً إلا رجل منهم ما نام -في قلبه حرارة لا إله إلا الله, في قلبه الحب لله, في قلبه وقود من الإيمان, في قلبه جذوة تتحرك بـ(الله أكبر)- قام إلى ماء عنده, فأخرجه من على ظهر مطيته, فتوضأ حتى تقاطرت لحيته وأعضاؤه بالماء, ثم استقبل القبلة يصلي ويبكي, فجمع الله الملائكة في السماء وقال: يا ملائكتي! انظروا لعبدي هذا ترك فراشه الوفير ولحافه الدفيء, وقام إلى الماء ليتوضأ, وقام يدعوني, أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة }.هذا أعظم نموذج في الحياة, هذا قيام الليل, لكنني أسأل من يتأخر عن صلاة الفجر: ما هو عذره يوم يتأخر عن صلاة الفجر؟ كيف يلقى الله يوم القيامة؟ ماذا يقول لله يوم القيامة؟ إذا قال الله له: أما جعلت بدنك صحيحاً؟ أما أغنيتك؟ أما جعلت لك عينين؟ أما جعلت لك شفتين؟ أما هديتك النجدين؟ أما قومت لك رجلين؟ أما منحتك يدين؟ أما منحتك أذنين؟ أما أسمعتك الله أكبر الله أكبر, الله أكبر الله أكبر؟! أما جعلت لك الليل سباتاً لترتاح فيه؟ والنهار معاشاً لتطلب فيه؟! فما عذرك في ترك صلاة الفجر جماعة؟!يقول عليه الصلاة والسلام: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله, فالله الله..
لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء, فإن من طلبه أدركه, ومن أدركه كبه على وجهه في النار } يقول أهل العلم في النوم وغيره: "من صلَّى الفجر في جماعة حفظه الله, وإن وقعت عليه فتنة سلمه الله, وأخرجه الله محفوظاً منها, وإن وقع عليه من القضاء والقدر شيء لطف الله به" حتى ميتة الذين لا يصلون الفجر في جماعة تأتي معكوسة منكوسة, حوادثهم في السيارات, لا يموتون كما يموت الناس, يموتون بلا شهادة, يموتون بلا حفظ, يموتون بلا ذكر, لأنهم تركوا صلاة الفجر جماعة.هذه بمناسبة دخول هذا الرجل على الرسول عليه الصلاة والسلام, فقال عليه الصلاة والسلام: {يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة } فدخل الرجل وصلَّى ركعتين, ومرة ثانية وثالثة يقول عليه الصلاة والسلام: {يدخل عليكم رجل من أهل الجنة } فخرج معه أحد الصحابة وبات عنده, فرأى صلاته كصلاة الناس, وصيامه كصيامهم, وذكره كذكرهم, قال: أسألك بالله! بم استحققت دخول الجنة, فقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام أنك من أهل الجنة؟! قال: لست بكثير صلاة ولا صيام ولا صدقة, ولكن والله ما نمت ليلة من الليالي وفي صدري غل لأحد أو غش على أحد أو حسد لأحد, وهذا هو الإيمان لا غل ولا حسد ولا حقد.وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف فلما دعاهم إلى التوحيد كذبوه, ثم أرسلوا أطفالهم عليه ورجموه بالحجارة حتى سالت دماؤه, كان يمسح الدم من رجله ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون, فأتاه ملك الجبال فقال: هل تريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا.
لكني أسأل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً }.
لا كمال للإيمان إلا بالتراحم والمؤاخاة
أيها الفضلاء..
إن هذه المنطقة لا تكتمل, ولا يكمل إيمان أهلها, حتى تقضي على العصبية الجاهلية, والتحزب القبلي, ليبقى حبهم في الله, وإخاؤهم لله وفي الله حتى يصلون إلى رضوان الله، نحن كلنا لآدم، جمعنا كتاب وسنة, وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام وآخى بيننا الله عز وجل في ظل ولاة أمر يريدون الله إن شاء الله, ونسأل الله لهم الهداية.إن الذي يأتي ليفاضل بين القبائل, وليحزب للفتن, وليجهز المحن, إنما هو عدو لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام, إن من يأتي ليفاضل بين الناس بسبب أسرهم, أو بسبب قبائلهم, أو ألوانهم إنما هو رجل متعد على حدود الله منتهك لحرمات الله.
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم, كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه } وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رأى الكعبة فقال: {ما أعظمكِ! وما أشد حرمتكِ! وما أعظمكِ عند الله! والذي نفسي بيده للمؤمن أشد حرمة منكِ }.أيها المسلمون الفضلاء..
يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } وهذا معنى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] كيف تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟ قال أهل العلم: "أن تحب له من الخير مثلما تحب لنفسك من الخير" ومن أعظم الخير أن تحب أن يستقيم, وأن يهتدي, وأن يصلي الصلوات الخمس في جماعة, وأن يتفقه في الدين.قام أعرابي في الحرم عند ابن عباس , وابن عباس يفتي الناس, فقام الأعرابي يسب ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه, فقال له ابن عباس : [[أتسبني وفيَّ ثلاث خصال؟ قال الناس: ما هي يا ابن العباس ؟ قال: والذي نفسي بيده ما نزل القطر في أرض إلا حمدت الله وسررت وليس لي في الأرض ناقة ولا جمل ما نزل القطر في أرض من الأراضي, أي: ما سمع بالمطر في الشمال أو في الجنوب, أو في الشرق أو في الغرب إلا سر وليس له ناقة ولا جمل- والأمر الثاني: والله ما سمعت بقاضٍ يحكم بكتاب الله إلا دعوت له وليس لي عنده قضية, والثالثة: والله ما فهمت آية من كتاب الله إلا تمنيت على الله أن يفهم الناس مثل ما فهمني هذه الآية ]] يقول: كيف وأنا في هذا المستوى, وهو تواضع منه, وهي من أشرف الخصال.كانوا يقولون عن ابن سيرين : كان إذا أقبل على فراشه نفض فراشه ثم قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً والمعوذات ثلاثاً ثم قال: "اللهم اغفر لمن شتمني، ولمن ظلمني، ولمن سبني؛ اللهم اغفر لمن فعل ذلك بي من المسلمين".وعند عبد الرزاق في المصنف : أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: {من منكم يتصدق مثل أبي ضمضم ؟ } أبو ضمضم من الصحابة كان فقيراً لا يملك حتى حفنة من التمر دعا صلى الله عليه وسلم للصدقة فالتمس في البيت صدقة من دراهم أو دنانير أو شيء فما وجد شيئاً, فقام فصلَّى ركعتين في ظلام الليل, وقال: {يا رب اللهم إن أهل الأموال تصدقوا بأموالهم, وأهل الخيل جهزوا خيولهم, وأهل الجمال جهزوا جمالهم, اللهم إنه لا مال لي ولا جمال ولا خيول, اللهم إني أتصدق إليك بصدقة فاقبلها, اللهم كل من ظلمني أو سبني أو شتمني, أو اغتابني من المسلمين فاجعله في عافية وفي حل وفي سماح } فقبل الله صدقته, وأتى جبريل فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك, وأخبره في الصباح فقال لـأبي ضمضم : {لقد تقبل الله صدقتك } قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].