“التسامح... هو العظمة الإسلامية” للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله
الثلاثاء 5 حزيران (يونيو) 2012 par الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي
عقد سماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله فصلا جعله خاتمة لكتاب “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” اتخذ له عنوان التسامح وقد أتى سماحته كعادته بالجديد المفيد جمع فيه بين التحرير والتنوير. ونظرا لأهميّته ولأن هذه القيمة (التسامح) يزداد الاهتمام بها باعتبارها من القيم التي تشتد إليها الحاجة في هذا الزمن الذي تكاد تختلط فيه المفاهيم وتلتبس على الناس، فيلبس الإسلام والمسلمون تهم التعصب والتزمت والظلامية والإرهاب! فإن هذا الأمر يستوجب من أهل الذكر من علماء الدين وحملة الأقلام وقادة الرأي وولاة أمور المسلمين فضلا عن الهيئات العلمية والجامعات الدينية والمجامع الفقهية أن يبين كل من موقعه وبأسلوبه حقائق الأمور وهم لا شك منتهون إلى أن الإسلام براء من كل ما يلصق به من شبهات واتهامات.
يبدأ سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله بتقديم تعريف للتسامح فيقول: (التسامح في اللغة مصدر سامحه إذا أبدى له السماحة القوية لان صيغة التفاعل هنا ليس فيها جانبان فيتعين أن يكون المراد بها المبالغة في الفعل مثل عافاك الله. واصل السماحة السهولة في المخالطة والمعاشرة وهي لين في الطبع في مظان تكثر في أمثالها الشدة، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (رحم الله رجلا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى).
ولكن الشيخ ابن عاشور رحمه الله يمضي إلى المعنى الذي تقتضيه الظروف والأحوال وكأني به يعيش الأوضاع التي يعيشها المسلمون اليوم والتي يحتاجون فيها إلى من ينفي عن دينهم الحنيف ما يحاول أن يلصقه به الآخرون يقول (وأنا أريد بالتسامح في هذا البحث إبداء السماحة للمخالفين للمسلمين بالدين وهو لفظ اصطلح عليه العلماء الباحثون عن الأديان من المتأخرين من أواخر القرن الماضي (القرن التاسع عشر) أخذا بالحديث (بعثت بالحنيفية السمحة) فقد صار هذا اللفظ حقيقة عرفية في هذا المعنى وربما عبروا عن معناه سالفا بلفظ تساهل وهو مرادف له في اللغة ولكن الاصطلاح الذي خص لفظ التسامح بمعنى السماحة الخاصة تلقاء المخالفين في الدين كان حقيقا بأن يترك مرادفه في أصل معناه فلذلك هجروا لفظ التساهل إذ كان يؤذن بقلة تمسك المسلم بدينه فتعين لفظ التسامح للتعبير عن هذا المعنى وهو لفظ رشيق الدلالة على المعنى المقصود لا ينبغي استبداله بغيره.
تحقيق النظر في قيمة التسامح:
ويعتبر سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله أن البحث عن تسامح الإسلام من أهم المباحث للناظر في حقائق هذا الدين القويم وذلك لعدم تصور كثير من العلماء ومن المفكرين معنى سماحة الإسلام بل اعتقد البعض منهم إنها غير موجودة في الإسلام وهناك من اثبت هذه الصفة للإسلام ولكنه أضاف إليها أو أنقص منها ويرجع سماحته إلى أن الحكم على الإسلام كان في كثير من الأحيان يستند إلى ما يشاهد من أحوال المسلمين.
وقد دفع ما يعامل به بعض أهل الملل المسلمين إلى جعل هؤلاء يتناسون التسامح الإسلامي فقد كان هذا التسامح دافعها لبعض أهل الملل إلى إدخال الرزايا على المسلمين مما دفع المسلمين إلى أخذ الحذر والمعاملة بالمثل يقول الشيخ الإمام (على أن هذه المعاملة قد لقيها المسلمون في كل العصور في وقت ظهور الدين فلم يكن ذلك حائلا بين المسلمين وبين تخلقهم بخلق التسامح واكتساب فضائله مع العلم بما ينالهم من جرائه من متاعب الحذر فإن محاسن الخلال لا يشينها ما قد يضيع بسببها من المنافع وعلى المتخلق بالفضائل أن لا ينبذها لذلك ولكن أن يأخذ الحيطة لدفع مكارهها). انظر الصفحة 227.
ثم بين سماحة الشيخ الإمام بعد ذلك أسباب عدم التسامح ويرجعها إلى فرط حب المتدين دينه ما يدفعه إليه هذا الحب من غيرة عليه تكون دافعة إلى كراهية ما يخالفه والرغبة الجامحة في تكثير سواد إتباع ذلك ومناواة من يأبى متابعته فأهل الأديان يجعلون من الدين جامعة مانعة أي يجعلونه جامعا للمتدينين به في المودة وحسن المعاشرة والعصبية كذلك يجعلونه مانعا من الامتزاج والمعاشرة والمودة مع المتدينين بغير دينهم ويكون ذلك مدعاة للكراهية والغلظة والبطش بالمخالفين ويقدم سماحة الشيخ الإمام على ذلك شواهد من التاريخ فإذا غلبت أمة متدينة أمة تدين بغير دينها جعلت أول ما يحمل عليه الغالب المغلوب أي يصده عن دينه وان يعبث بشعائره من هدم معابد وإحراق كتب وتقتيل وتمثيل كما فعل الأشوريون باليهود وكما فعل الرومان باليهود وكما فعل الحبشة بالعرب ويقدم سماحته على ما يذهب إليه شواهد من القرآن الكريم “وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله”، وإن قريشا لم يحتملوا مشاهدة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتآمروا وبعثوا سفيههم فوضعوا على ظهره حين سجوده سلى جزور وتعرضوا لأبي بكر فمنعوه الجهر بقراءة القرآن حتى هم بالخروج من مكة قاصدا بلاد الحبشة.
ويبين سماحة الشيخ الإمام أن الإسلام يختلف في تعامله مع الآخرين فإنه مع ما دعا إليه أتباعه من جعله الدين هو الجامعة العظمى التي تضمحل أمامها سائر الجامعات إذا خالفتها فهو لم يجعل تلك الجامعة سببا للاعتداء على غير الداخل فيها ولا لغمط حقوقه في الحياة وإجراء الأحكام فجعل التسامح من أصول نظامه.
التسامح وليد إصلاح التفكير
إن سماحة الشيخ ابن عاشور رحمه الله يرى أن التسامح في الإسلام وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق اللذين هما من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. وإن الفكر الصحيح السليم من التأثيرات الباطلة ومن العوائد المعوجة يسوق صاحبه إلى العقائد الحقة ثم هو يكسب صاحبه الثقة بعقيدته والأمن عليها من أن يزلزلها مخالف، فهو من هذه الجهة قليل الحذر من المخالف في العقيدة لا يشمئز من وجوده ولا يقف شعره من سماعه بيد انه ربما أحس من ضلال مخالفه بإحساس يضيق به صدره وتمتلئ منه نفسه تعجبا من قلة اهتداء المخالفين إلى العقيدة الحقة وكيف يغيب عليهم ما يبدو له واضحا بيّنا يقول سماحة الشيخ الإمام (وههنا يجئ عمل مكارم الأخلاق فيكون من النشأة على مكارم الأخلاق معدل لذلك الحرج وشارح لذلك الصدر الضيق حتى يتدرب على تلقي مخالفات المخالفين بنفس مطمئنة وصدر رحب ولسان طلق لإقامة الحجة والهدي إلى المحبة دون ضجر ولا سآمة.
ويقدم سماحة الشيخ الإمام على ما ذهب إليه أدلة من كتاب الله العزيز (إنك على الحق المبين فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العُمْيِ عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) سورة الروم/52 وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) انظر الصفحة 229. سورة المائدة/105.
ويعتبر سماحة الشيخ الإمام أن ما في عقيدة المسلمين من تصديق أنبياء بني إسرائيل له أثر بيّن في التسامح الإسلامي مع أهل الكتاب وهو ما جعل المسلمين يعذرون المخالفين لهم في الدين.
ويستدل الشيخ الإمام على إثارة أصل مكارم الأخلاق بمثل قوله تعالى (لعلك باخع نفسك ألاَّ يكونوا مؤمنين) وغيرها من الآيات التي تندرج في هذا السياق سورة الشعراء/2.
بعد هذا التأصيل بالعقل والنقل لقيمة التسامح في دين الإسلام يقول سماحة الشيخ ابن عاشور (إن التسامح من خصائص دين الإسلام وهو أشهر مميزاته وانه من النعم التي انعم بها على أضداده وأعدائه وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقرر بقوله تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.انظر الصفحة 229.
الاختلاف جبلة في البشر
ويذهب سماحة الإمام محمد الطاهر ابن عاشور إلى أن الإسلام أسس للتسامح أسسا راسخة وعقد له مواثيق متينة سواء كان ذلك فيما يتعلق بواجب المسلمين نحو بعضهم البعض من تضامن وتواد أو ما يتعلق بحسن معاملتهم مع من تقتضي الأحوال مخالطتهم من أهل الملل الأخرى وقاعدة كل ذلك وأسُّهُ ما ورد في القرآن الكريم وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الاختلاف ضروري في جبلة البشر وذلك يعود إلى اختلاف المدارك وتفاوت العقول في الاستقامة ويستدل سماحته على ما يذهب بقوله جل من قائل “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” سورة هود/118 وقوله تعالى “لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنّك في الأمر وادع إلى ربك انك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون” سورة الحجّ/67.
يقول الشيخ الإمام: (فالإسلام دعا الناس إلى الوحدة في دين الفطرة واراهم محاسنه ولكنه لم يدع أتباعه إلى مناواة من أعرض عن الدخول في تلك الوحدة واختار لنفسه الحالة الناقصة) أنظر الصفحة 230.
منهج الإسلام في التعامل مع الآخر:
ويبين سماحة الشيخ الإمام أن التسامح يظهر مفعوله في المواقع التي هي مظنة ظهور ضده اعني التعصب وهو الذي له مظهران أي في المعاملات التي تعرض عند الانفعالات الناشئة عن التخالف الديني وفي المعاملات الدنيوية التي لا علاقة لها بالانفعالات الدينية وذلك بحكم التجاور وهي التي تعرض بين فريقين مختلفين في الدين متجاورين في مكان مثلما عرض من المعاملة بين المسلمين واليهود في المدينة وما حولها والمعاملة بين المسلمين والنصاري في قبائل العرب الذين اسلم بعضهم وبقي بعض على النصرانية مثل تغلب وكلب وطي فإذا عرضنا تسامح الإسلام مع المخالفين في الدين رأينا تسامحا كاملا واضحا في المظهرين كليهما.
اِستدل على النوع الأول من التعامل بما دعا إليه الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زيّنا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون” سورة الأنعام/108 وكذلك يستدل بحديث لطم المسلم اليهودي حين قال والذي اصطفى موسى على العالمين أن رسول الله لما بلغه ذلك قال “لا تخيروني على موسى وفي رواية لا تخيروا بين الأنبياء”.
واستدل على المظهر الثاني (مظهر المعاملات الدنيوية البحتة) بما أمر به الإسلام من تسامح في مختلف أحوال المخالطة من المخالطة العائلية التي في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس له به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون“سورة العنكبوت/8 وكذلك في معاملات الصحبة مع المخالفين في الدين قال تعالى:”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" سورة الممتحنة/8 ويورد سماحة الشيخ الإمام في هذا السياق رأي ابن عباس الذي يقول (وتقسطوا إليهم بالصلة وغيرها) وقول ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى وتقسطوا إليهم أي تعطوهم قسطا من أموالكم وليس يريد به العدل فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل ويضيف سماحته إلى ذلك آراء أخرى تعضد ما ذهب إليه من رأي سديد قويم وينتهي من هذا الفصل الممتع والشيّق جدا والجدير بالعرض على الناس يقول سماحته (لقد مازج المسلمون أمما مختلفة الأديان دخلوا تحت سلطانهم من نصارى العرب ومجوس الفرس ويعاقبة القبط وصائبة العراق ويهود أريحاء فكانوا مع الجميع على أحسن ما يعامل به العشير عشيره فتعلموا منهم وعلموهم وترجموا كتب علومهم وجعلوا لهم الحرية في إقامة رسومهم واستبقوا لهم عوائدهم المتولدة من أديانهم ربما شاركوهم في كثير منها بعنوان عوائد كما كان عملهم في عيد النوروز وعيد الغمس في مصر.
التسامح هو العظمة الإسلامية
لم يحفظ التاريخ أن امة سوّت رعاياها المخالفين لها في دينها برعاياها الأصليين في شأن قوانين العدالة ونوال حظوظ الحياة بقاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا مع تخويلهم البقاء على رسومهم وعاداتهم مثل أمة المسلمين فحقيق هذا الذي نسميه التسامح بأن نسميه العظمة الإسلامية لأننا نجد الإسلام حين جعل هذا التسامح من أصول نظامه قد أنبأ على أنه مليء بثقة النفس وصدق الموقف وسلامة الطوية وكل إناء بالذي فيه يرشح وقد أعرب عن ذلك كله قوله تعالى: “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”.
هذه أيها القارئ الكريم قراءة مستوفية لنص علمي خطه قلم سماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله حول قيمة التسامح ومنزلتها من دين الإسلام حيث أصل لها رحمه الله ووضع لها القواعد وأقام عليها الحجج والبراهين العقلية والنقلية والشواهد من الحوادث التاريخية سواء كان ذلك قبل مجيء الإسلام أو بعد بزوغ فجره مما يدل دلالة قطعية أن دين الإسلام هو دين التسامح الذي تذهب معه كل الدعاوى الباطلة التي يحاول أن يلصقها به أعداؤه معتبرين أن الإسلام دين إرهاب وعنف وتعصب.